دروس الأستاذ العلوي المحمدي محمد
الثانوية التأهيلية : عبد المومن
المستوى : باكلوريا ( علوم و آداب ) المجزوءة الأولى : الوضع البشري
تقديم :
يضعنا الوضع البشري أمام مفارقة تدعونا للتأمل و التفكير . فمن جهة أولى ، تحكم الكائن البشري ضرورات بيولوجية اجتماعية ثقافية . و من جهة ثانية ، بإمكان هذا الكائن التعالي على هذا الوضع بفضل وعيه و إرادته و حريته و قدرته على تجاوز كل الالزامات و الإكراهات و الحتميات . إن ثنائية الحتمية / الحرية تؤثث المجال الإشكالي للوجود البشري و تجعله وضعا مركبا يحتوي على أبعاد متعددة : بعد ذاتي يرتبط بالشخص ( كوعي ) و بعد علائقي يحيل على الغير ، و بعد زمني يتصل بالتاريخ . فما هو الشخص ؟ و ما هو الغير ؟ و ما هو التاريخ ؟
1- مفهوم الشخص :
1) من الدلالات إلى الإشكالية :
ليس الشخص مجرد صفة نخص بها بعض الأفراد ، أو حكم قيمة نصدره على كائن ما انطلاقا من معايير مادية أو رمزية ، و ليس لفظا لغويا بسيطا ( الظاهر / القناع )، إنما هو مفهوم فلسفي مركب ، فهو من جهة وحدة جسمية و من جهة أخرى وحدة أخلاقية عقلية حقوقية. إنه إذن يحتوي على مجموعة من المتقابلات: الجسم / العقل - الطبيعي / الثقافي – الفردي / الاجتماعي – الظاهر / الباطن . و بهذا المعنى إن مفهوم الشخص مفهوم فلسفي إشكالي سنقاربه من خلال التساؤلات التالية :
- ما أساس هوية الشخص ؟ هل الجسد أم العقل أم هما معا ؟
- هل الوعي و الإرادة أم اللاشعور ؟
- هل أساسها ذاتي أم اجتماعي ؟
- على ماذا يتأسس البعد الأخلاقي و الحقوقي للشخص ؟
- هل انطلاقا مما هو ذاتي أم ما هو موضوعي ؟
- ما أساس قيمة الشخص ؟ هل يخضع الشخص للضرورة و الحتمية أم أنه حر مسؤول عن أفعاله ؟
2) الشخص و الهوية :
قد يحدث أن يرجع الشخص إلى " ألبوم " صوره و يتصفحه ليعثر على صور أخذت له في طفولته المبكرة ثم في شبابه ليقول: "أنا تغيرت". هذه الجملة تتضمن المفارقة التالية : من جهة أولى إنها تؤكد على تغيرات طرأت على شخصيته و من جهة ثانية إرجاع كل تلك التغيرات إلى نفس الشخص إلى نفس الأنا ، أي إلى هوية محددة ، إلى وحدة معينة هي الأنا . فما أساس وحدة الشخص و هويته ، بقائه و استمراريته رغم التغيرات التي قد تلحق به ؟ هل هذه الوحدة أساسها الجسد أم العقل ، الشعور أم اللاشعور ، الذات أم المجتمع ؟
جوابا عن هذه التساؤلات تعددت المواقف الفلسفية :
2-1- ديكارت : الأساس الثابت لوحدة الأنا و هويتها ليس هو الجسد لأنه متغير ،إنه العقل كنور فطري طبيعي ، ذلك لأن التساؤل الأنطولوجي : من أنا ؟ يرتبط في الصميم بالسؤال عن الهوية ، و يصوغ ديكارت الجواب عن هذا التساؤل : أنا شيء مفكر. و يعتبر الشك في مقدمة أفعال الفكر ، إذ بواسطته يمكن تأكيد وجود الأنا كحقيقة يقينية بديهية " أنا أفكر إذن أنا موجود " .
لكن هل يمكن بناء هوية الأنا اعتمادا على العقل بمعزل عن الجسد ؟ ألا يعتبر الإحساس و الشعور الجسدي سابقا على الفكر في تحديد هوية الشخص ؟
2-2- جون لوك : عكس ديكارت يرى بأن ما يجعل الشخص هو ذاته محافظا على هويته في مختلف الأزمنة و الأمكنة هو الإحساس و الذاكرة ، ذلك لأن الإحساس هو وسيلتنا الأولى للتعرف على ذاتنا و على العالم ، كما أن هذا الفعل يمتد إلى الماضي من خلال فعل التذكر .
2-3- شوبنهاور : هوية الشخص لا تتحدد من خلال الجسم لأنه متغير و لا من الشعور و الذاكرة لأنهما عرضة لآفة المرض و النسيان ، إنها تتوقف على الإرادة " هي نواة وجودنا ... لا تعرف في قراراتها غير شيئين: أن تريد أو أن لا تريد ". إن الذات الحقيقية حسب شوبنهاور ليست هي الذات العارفة و إنما هي الذات المريدة.
2-4- لاشوليي : ينتقد التصور الماهوي للشخص ، حيث ينفي وجود انا ثابت و يقدم أمثلة على ذلك ( النوم – فقدان الذاكرة – مرض نفسي ) ، إن أساس هوية الشخص هو وحدته النفسية المرتكزة على آليتين : الطبع و الذاكرة '' هناك شيئان يجعلاننا نحس بهوياتنا أمام أنفسنا و هما : دوام نفس الطبع و ترابط ذكرياتنا ''.
2-5- فرويد :أساس هوية الشخص وحدة دينامية بين الهو و الأنا الأعلى و الأنا . و يعتبر الجسد كطاقة طبيعية بيولوجية المادة الأولية الأساسية لتشكل الشخص ، فاللاشعور إذن هو أساس الكائن البشري ، و ما الوعي إلا قشرة خارجية لللأنا .
2-6- إيمانويل مونييه: يمكن تحديد هوية الشخص بما ليس هو ، إنه ليس شيئا يعرف من الخارج و ليس فردا منعزلا على نفسه ، إنه الكائن الوحيد الذي يعرف من الداخل عبر الإحساس به و العيش معه . وهو انفتاح على الغير و حركة باتجاهه و قوة تندفع للخروج من ذاتها ،و هو اندماج أصيل و تعايش مع الغير .
استنتاج :
لتحديد هوية الشخص لا يمكن أن نكتفي بعنصر واحد كالعقل أو الجسد أو الطبع و الذاكرة أو الإرادة ، أو الغير فلا بد من استحضار كل هذه المقومات في تفاعلها و تكاملها .
3)الشخص بوصفه قيمة:
الشخص كائن أخلاقي و حقوقي انه ليس شيئا كالأشياء وإنما هو ذات فاعلة فمن أين يستمد فعله قيمته هل من ذاته كشخص أم من الخارج(المجتمع
؟ هل للشخص قيمة أخلاقية مطلقة أم قيمة حقوقية نسبية ؟ جوابا عن هذه التساؤلات تعددت المواقف:
3-1- كانط : الإنسان كائن عاقل وهو غاية في ذاته وليس أداة أو وسيلة يستعملها الغير انه عكس الأشياء هو الكائن الوحيد الذي له قيمة مطلقة لأنه غاية في حد ذاته لهذا السبب يسمى الانسان شخصا وتسمى الموجودات الأخرى أشياء، إذ لا يمكن تقويم الانسان بسعر كما نفعل مع الأشياء والحيوانات. إن للشخص كرامة تستدعي الاحترام وفي القيام بذلك احترام للإنسانية التي يمثلها
3-2 - هيغل : لا يكتسب الأشخاص قيمتهم إلا حين يمتثلون لروح شعوبهم ( العقل
ويمارسون دورهم بكل حرية ومسؤولية انسجاما مع ما يمليه الواجب الأخلاقي
3-3- مونييه: إن الشخص هو تجربة روحية غنية منغرسة ومتجسدة في العالم ، منفتحة على الآخرين والمستقبل ،انه نشاط معيش أساسه الإبداع الذاتي والتواصل ومعنى هذا أن ا لشخص يكتسب قيمته من انفتاحه وحواره مع الغير
3-4- جوسدورف:يعرف الشخص انطلاقا من كونه عنصرا داخل ا لجماعة وهو ما يعني انه يكتسب قيمته من خلال انفتاحه علي الآخرين وتضامنه معهم،إن الشخص ليس ما يملك إنما هو اخذ وعطاء.
3-5- راولز:الشخص ليس مجرد كائن أخلاقي،انه مواطن عضو في جماعة يخضع لقانون احترام الحقوق والواجبات،ولكونه مواطنا فهذا يعني انه لا يملك أي امتياز عن المواطنين الاخرين،لان كل شخص له الكفاءة العقلية والأخلاقية وهذه المساواة في الكفاءة هي التي تمكن من ممارسة العدل والإنصاف والتعاون بين الناس.
استنتاج:
نستنتج مما سبق أن للشخص قيمة ذاتية من حيث انه ليس أداة أوشيئا أو وسيلة،انه غاية في حد ذاته يستمد قيمته من كونه عقل وضمير وحرية وله أيضا قيمة موضوعية تكمن في كونه يعيش داخل جماعة مطلوب منه أن ينفتح عليها باستمرار باعتباره مواطنا له حقوق وعليه واجبات.
4)الشخص بين الضرورة و الحرية:
يتضمن الوضع البشري هذه المفارقة : الضرورة/الحرية ، من حيث أن الانسان يخضع لضرورات( الحياة - الموت - الشغل – اللغة
لكنه في نفس الوقت قادر بفضل وعيه و إرادته أن يتعالى على تلك الضرورات،فهل معنى هذا أن الشخص الإنساني حر أم انه عكس ذلك محكوم بضرورات وحتميات؟
جوابا عن هذا التساؤل، نقدم المواقف التالية :
4-1- سبينوزا: للإنسان شهوات و أقوال و أفعال لا تقع تحت سيطرته ،و هو عاجز عن التحكم فيها ، إن تجربتي الخطأ و الندم تعلمان المرء أنه ليس دائما حرا في أفعاله و اختياراته ، فكون الإنسان يعي أفعاله فهذا لا يعني أنه اختارها بمحض إرادته ، هذا الوعي يوهم الإنسان بأنه حر في الوقت الذي يخضع فيه للطبيعة و ضروراتها .
4-2- فرويد: لا وجود لحرية الأنا الشخص ، إنه يخضع لثلاث سادة أشداء أقوياء هم: الهو ـ الأنا الأعلى ـ الواقع . إن الشخص يخضع لحتمية لاشعورية .
4-3- مونييه : الشخص حسبه حر لأنه قد يقبل الظروف و الأوضاع التي يتواجد فيها ـ و الحرية لا تتحقق إلا في مواجهة العوائق و الحواجز ، أي بذل جهد للتغلب على المعيقات الداخلية و الخارجية . ليست الحرية هي أن نفعل ما نريد،و إنما أن نصارع ظروفا معينة و نتغلب عليها .
4-4- سارتر : يميز سارتر بين الوجود و الماهية ـ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يسبق وجوده ماهيته ، أي أن وجوده سابق على تعريفه . إنه في البدء لا شيء، لا يمكن أن نقول أنه عاقل أو أحمق أو ناطق، كل تعريف هو تحديد، وكل تحديد هو تقييد، و هذا ما يتعارض مع وجود الإنسان و حريته. إن الإنسان مشروع متجه نحو المستقبل، و لهذا فهو يتجاوز وضعه نحو وضع آخر عبر الإرادة و الفعل و الشغل " إن الإنسان محكوم عليه أن يكون حرا." يقول أيضا :" إننا لا نفعل ما نريده و مع ذلك نحن مسؤولون عما نقوم به."
استنتاج :
نستنتج مما سبق أن الشخص تحكمه ضرورات بيولوجية ، اجتماعية ، ثقافية ، لكنه بفضل وعيه و إرادته قادر على التعالي على هذه الحتميات و التحرر منها ، إنه مثل طائر الفينيق الذي يُحرق و ينبعث من رماده أكثر توهجا و بهاء و قوة .
استنتاجات عامة حول المفهوم :
إذا كان من الصعوبة بمكان وضع تعريف جامع مانع للشخص ، نظرا لأنه ليس موضوعا يدرس كما تدرس الاشياء الخارجية ، لكن مع ذلك فإن مفهوم الشخص يحيل على كائن أخلاقي حقوقي ، هذا المعنى يطرح اليوم مشكلات جديدة في ضوء التغيرات التي عرفها مجال الأخلاق و الطب والإيكولوجيا، لقد وسعت الفلسفات البيئية من مجال استعمال مفهوم الشخص ليتعدى الدائرة الإنسانية من خلال المطالبة بحقوق الطبيعة واحترام كرامة الحيوان بل هناك من يعتبر الرضع أشخاصا . فهل الانسان هو وحده من يعتبر شخصا؟ وما القول أمام الذين يتحدثون عن الحيوانات كذوات حقوقية؟ هل يمكن أن نرفع من وضعهم إلى مستوى الكرامة اللازمة للشخص الحقوقي؟
_______________________________________________
الحتمية: هي مجموع الشروط الضرورية لإفراز ظاهرة ما وهي نظرية تؤكد بان الأحداث السابقة تفسر بالضرورة الأحداث والأفعال الملاحظة.
[b]