مفهوم الغير
الثانية باك
درس الأستاذ العلوي المحمدي محمد
مجزوءة الوضع البشري
مفهوم الغير
تقديم: لا يوجد الانسان وحيدا في العالم انه يعيش مع الاخرين من بني جنسه يقاسمهم الهواء والخبز والحب وحتى في أقصى درجات العزلة والوحدة فان الغير يوجد داخل الأنا من خلال الجينات الوراثية واللغة والفكر
فما هو الغير؟وبأي معنى يعتبر بعدا أساسيا من أبعاد الوضع البشري؟
1 من الدلالات إلى الإشكالية
ليس الغير مرادفا للآخر ولا يتحدد بالسلب والنفي .:" لا أنا ولا نحن" كما أن الغير لا يحيل على لفظ لغوي بسيط يدل على التغير والاختلاف أو على التشابه والتماثل. انه مفهوم عقلي فلسفي انه انا آخر وحسب تعبير سارتر: "الأنا الذي ليس انا ".انه يحتوي على مجموعة من المتقابلات: ذات/ موضوع التشابه/ الاختلاف الظاهر/ الباطن و بهذا المعنى مفهوم الغير مفهوم إشكالي سنتناوله من خلال التساؤلات التالية: هل وجود الغير ضروري ام ثانوي؟ هل وجوده مهدد للانا أم انه مكمل لها ؟ هل معرفته ممكنة ام مستحيلة ؟ ما الموقف الذي يجب أن نؤسسه في علاقتنا بالغير: الإقصاء و الرفض أم التعايش و الحوار؟
2 وجود الغير: هل وجود الغير ضروري أم ثانوي؟ هل يوجد كذات ام كموضوع ام كعالم ممكن و بنية رمزية ؟
تعتبر إشكالية الغير إشكالية حديثة ترتبط بدايتها بفلسفة هيغل في القرن 18 وشكلت النقيض المباشر للديكارتية
2 ـ1- ديكارت: تقوم فلسفته على تجربة الشك فالأنا الذي يشك يفكر ويضع نفسه في مقابل العالم و الاخرين في عزلة انطلوجية لا يحتاج إلى وساطة العالم و الاخرين لمعرفة ذاته . إن الأنا أفكر حقيقة يقينية بديهية أي لا تحتاج إلى برهان وما عداها قابل للشك ووجود الغير متوقف على حكم العقل واستدلاله فهل وجود الغير مشروط بالبرهنة والاستدلال؟
ترى الفلسفة المعاصرة أن وجود الغير يقين أصلي سابق على كل استدلال وبرهنة دلك لان كل وعي هو وعي بشئ ما بل إن وعينا يعترف بوجود وعي الاخرين كشعور أصلي أساسي لدى كل شخص
2ـ2 -هيغل: وجود الغير نكتشفه مباشرة من خلال تجربة الصراع.من هنا فان الواقعة الأولى ليست هي عزلة الكوجيطو":أفكر ادن انا موجود" أنها صراع وعيين :عندما أقول:انا فإنني انتظر اعتراف الغيربي كوعي مستقل إلا أن الرغبة في الاعتراف كرغبة عقلية لا تتحقق بشكل سلمي و إنما تنتزع من خلال الصراع بين طرفين يخاطران معا بحياتهما.الموت لا يحقق الاعتراف وإنما استسلام احد الطرفين بتفضيله الحياة على الموت .وهنا يتحول المنتصر إلى سيد والمنهزم إلى عبد وهكذا فان وعي المنتصر كوعي مستقل لا يكون كذلك إلا في علاقته بوعي تابع المنهزم وهدا معناه أن وجود العبد ضروري لوجود السيد انه جسد السيد
2ـ 3- سارتر: يوجد الغير كأنا آخر كما يوجد كوسيط بيني وبين ذاتي في الحالة الأولى فهو يوجد خارجي رغم أن له انا مثلي لهدا أدرك وجوده كموضوع كما أبدو له انا أيضا كموضوع لكن الغير يقوم بدور مزدوج سلبي وايجابي: فهو يمكنني من معرفة ذاتي عبر تمكيني من اكتساب تجارب لا استطيع اكتسابها بدونه مثل تجربة الخجل لكنه في نفس الوقت يحد من حريتي لأنني اكتشف أن خجلي لا معنى له إلا أمامه وبسببه
2ـ 4 - ميرلو بونتي :يصعب على الفهم العلمي للعالم والذي يقدم نفسه كفهم موضوعي أن يعرف الغير ذلك لان هدا الأخير ليس مجرد شيء انه مزدوج التكوين : فهو جسد ووعي في نفس الوقت . فالعلوم تتطرق للجسم للشئ وتعجز عن الوصول للوعي المختبئ داخل اللحم النيئ حسب تعبير ميرلو بونتي .يقود هذا الوضع المزدوج إلى التمييز بين مستويين في الغير:فهو وجود في ذاته جسد ووجود لذاته وعي وتنتج عن هدا الوضع مفارقة صعبة فلكي احدد وجود الغير علي أن أتعامل معه كشئ وكوعي وهدا ما يعجز عن فعله الفكر العلمي الذي يتميز بالموضوعية يعجز عن الاعتراف بالغير باعتباره تعددا للوعي كيف يمكن له أن يعترف بما هو متعدد ومتغير ولا يخضع للتعميم والتقعيد؟ اذن يوجد الغير كانا وكوعي وليس كشئ . يقول ميرلو بونتي:"لا يمكنني النفاذ إلى الغير إلا لكونه أنا "
2ـ 5- جيل دولوز و فليكس غاتاري : الغير ليس ذاتا ولا موضوعا لا جسما ولا نفسا انه عالم ممكن بنية نظام من العلاقات والتفاعلات "إن الغير هو عالم ممكن كما يتبدى في مُحيا من يعبر عنه و كما يحصل عبر لغة تمنحه صورة متحققة ".
3 معرفة الغير:المعرفة هي ذلك النشاط العقلي الذي تمارسه الذات العارفة على موضوع مجرد أو ملموس،فهل الغير قابل للمعرفة و الموضعة ؟ هل أعرفه كما أعرف الأشياء علما أن وجوده يختلف عن نمط وجودها لأنه شخص و أنا آخر يعي ذاته و يعي العالم ؟
3-1- هسرل: يرى أن وجود الغير حاضر في الأنا أفكر على اعتبار أن الوعي تجربة تستحضر دوما الآخرين لأنه تجربة قصدية ،مادام الوعي هو دائما وعي بموضوع ما . فإدراك الآخرين هو إدراك لذوات نفسية طبيعية. يوجد الغير إذن مع الأنا في العالم لكن ليس كالأشياء بل بوصفه ذات تشبهني و تختلف عني ، و عن طريق التوحد الحدسي به انطلاقا من وحدة العالم المشترك و المدرك بيني و بين الغير يصبح أنا هو و هو أنا ، و هو الأمر الذي يسمح ببناء عالم البين ذاتية الذي يؤسس العالم الموضوعي.
3-2- سارتر: إن وجود الأنا و وجود الغير يفصل بينهما عدم لا يمكن تجاوزه ، عدم ينبثق من طبيعة العلاقة المكانية التي تجمعني بالغير ، وهي شبيهة بالعلاقة التي تجمع بين الأشياء ، و هو عدم يتمظهر في تلك التجربة التي تتوخى معرفة الغير ، و هي معرفة تنتهي دوما إلى تحويله إلى مجرد شيء من أشياء العالم ، كما أن سعيه إلى معرفتي يحولني إلى شيء . إن وجود الغير وسيط ضروري لوعيي بذاتي ، لكن معرفته أمر غير ممكن .
3-3- ميرلو بونتي : عكس سارتر يرى أن التواصل يساهم مساهمة فعالة في المعرفة المتبادلة بين الأنا والغير. فلا تحولني نظرة الغير إلى موضوع ولا تحوله نظرتي إلى موضوع إلا عند الانغلاق على الذات ورفض التواصل وهذا معناه أن التواصل قد يتوقف لكنه لا ينقطع لان الغير موجود في المجال الإدراكي المشترك باعتباره جسدا مثل جسدي حاملا لدلالات ومعاني .إن معرفة الغير ممكنة لأنها أصلا معرفة لذاتي المشروطة بحضور الغير.وهنا ينفي ميرلو بونتي نزعة الأنا وحدية الديكارتية التي تدعي أن معرفة الغير ليست معرفة يقينية ويعوض الذاتية المتعالية بالمعرفة على أساس البينذاتية
3ـ4ـ ماكس شيلر:يؤكد نفس موقف ميرلو بونتي مثيرا أهمية التعاطف الوجداني في معرفة الغير وإدراكه بوصفه كلا لا يقبل القسمة فالغير جسد ومشاعر نفسية ومشاركتي له وتعاطفي معه يسمحان بمعرفة دلالة ما يقوم به وما يشعر به .فالحب هنا يصبح نمطا من معرفة الغير.
3ـ5 ـمالبرانش :الغير هو عالمه الداخلي الروحي النفسي العقلي وليس جسمه لذلك لا يمكن أن اعرفه عن طريق العقل والوعي لاختلافه عني وإذا افترضنا أن نفوس الاخرين وعقولهم تشبه نفوسنا وعقولنا واستنتجنا من ذلك أن ما نشعر به هو ما يشعرون به أي عبر القياس
بالمماثلة فإننا سنرتكب خطا كبيرا لذلك لايمكن للذات أن تعتبر نفسها مقياسا لمعرفة الغير
3ـ 6 ـ بيرجي كل رغبة صادقة لمعرفة الغير والتعاطف معه مآلها الفشل اعتبارا لعزلة الأنا وانغلاق عالمها مثل انغلاق عالم الغير أمام الأنا فالذات هي عبارة عن حميمية وسجن وعزلة ووحد ة وعالم سري لهذا فذاتي موصدة أمام الغير وذات الغير موصدة أمامي
خلاصة: معرفة الغير إذن تنطوي على مفارقة فمن جهة أولى فهي ممكنة انطلاقا من عالمنا المشترك و ما يحمله من دلالات و من وحدة التجربة الإنسانية (هسرل – ميرلوبونتي – شيلر) و من جهة ثانية فهي مستحيلة حسب سارتر و برجي ،و صعبة (مالبرانش) لكن العلاقة مع الغير تتجاوز الصعيد المعرفي إلى جوانب أخرى اجتماعية أخلاقية و ثقافية
4 العلاقة مع الغير:

تحتوي العلاقة مع الغير على مفارقة فمن جهة أولى هو مكمل للانا ومن جهة ثانية قد يشكل الغير تهديدا لوجود الأنا فهل العلاقة مع الغير أساسها التكامل ام الصراع ؟ هل يستدعي الغير منا موقف النبذ والإقصاء ام موقف الحوار والتسامح والاحترام؟
4ـ 1 العلاقة مع الغير أساسها الصراع
ـ هيغل: إن تحقيق الرغبة في الاعتراف كرغبة عقلية لا تتم إلا من خلال الصراع حيث يصبح الأنا المنتصر مستعبدا للآخر المنهزم فالأنا لايعترف بالغير إلا عبر استعباده وتسخيره لصالحه هذا التصور نجده أيضا لدى كوجيف
-سارتر: إن النظرة تعكس التهديد الذي يمكن أن يمارسه الغير على الأنا فما أن تقع نظرة الغير على طفل يلعب بتلقائية حتى يفقد عفويته و يتجمد في مكانه ، :إن الاخرين هم الجحيم حسب تعبير الفيلسوف
-هيدجر: يرى أن وجود الأنا المشترك مع الغير يفقده هويته كاختلاف ذلك لان "الهم" الغير يعملون على خلق ذوات متشابهة بواسطة سيطرتهم الخفية
لكن هل يشكل الغير دائما تهديدا مباشرا للانا ؟ ألا تمثل تجارب الحب و الصداقة أساسا للتواصل والتكامل مع الغير؟
4ـ2 العلاقة مع الغير أساسها التكامل
ـ أرسطو: الصداقة نموذج إنساني راقي يحقق التكامل مع الغير وهي قيمة مدنية وأخلاقية تعكس إحدى الحاجات الضرورية للكائن البشري ولقد ميز أرسطو بين ثلاثة أنواع من الصداقة: صداقة المنفعة ـ صداقة المتعة ـ صداقة الفضيلة الصنف الأول والثاني يزولان بمجرد تحقق الغاية منهما أما صداقة الفضيلة فلأنها تقوم على محبة الخير والجمال لذاتهما وللأصدقاء فإنها تدوم . ولو أمكن قيام هذا النوع من العلاقات بين الناس لما احتاجوا إلى العدالة والقوانين
ـ كانط : تتأسس العلاقة بين الأنا والغير على مبدأ الواجب الأخلاقي كواجب عقلي كوني والصداقة باعتبارها قيمة مثلى تقوم على توازن بين عناصر الواجب الأخلاقي؛ إنها علاقة إنسانية نبيلة تجمع بين مشاعر الحب والاحترام المتبادل بين شخصين
ـ اوجست كونت: يحيى الانسان من اجل الغيرلانه لايوجد في هذا العالم إلا بفضل الإنسانية التي منحته كل ما يملك .ومهما فعل من اجلها لن يستطيع أن يرد لها ولو جزءا ضئيلا مما أسدته له. الغيرية إذن هي أساس وجود الانسان واستمرار يته وهي باعتبارها نكران للذات وتضحية من اجل الغير تقوم على مشاعر التعاطف والمحبة. وتحقق الإنسانية غاياتها الكبرى في نشر قيم العقل والعلم والتضامن والاستقرار في العالم.
ـ جوليا كريستيفا: لا يتشكل المجتمع الإنساني الواسع فقط من الأقارب والأصدقاء بل يحتوي أيضا على أغيار غرباء وأجانب.
ليس الغريب في ـ نظرها ـ هو الدخيل القادم من خارج الجماعة والمهدد لوحدتها وانسجامها ذلك لان وحدة الجماعة ليست في الحقيقة سوى مظهر سطحي فهي في العمق تحمل في ذاتها غريبها قبل أن يدخل إليها غريب أجنبي وهذا ما عبرت عنه كريستيفا بقولها":إن الغريب يسكننا على نحو غريب" لذلك فان الموقف الطبيعي الذي ينبغي أن يتخذ من الغير البعيد الأجنبي سواء كان جنسا آخر أو مجتمعا وثقافة أخرى ليس هو موقف الإقصاء والعداء بل هو موقف الحوار والتسامح والتعايش والاحترام. لأنه أولا كائن بشري مثلنا أي انا آخر وثانيا لان" الوجود البشري الفردي والجماعي ينطوي على نقص ونداء للغير" على حد تعبير مارك جيوم .غير أن الحوار بين الأنا ـ نحن والغير يقتضي أن يحتفظ كل منهما باستقلاله وهويته لان ذوبان الأنا في الغير اوالعكس يجعل الحوار لا معنى له

استنتاج:
يوجد ارتباط وثيق بين مفهوم الأنا ومفهوم الغير
وجود الغير ضروري لوجود الأنا فالأنا يتشكل داخل هذه العلاقة بل إن معرفة الذات تمر عبر معرفة الغير
يحمل الأنا الغير في ذاته ويوجد في تجربته وجسده لكنه يواجهه أيضا جسديا وفكريا في العالم انه الشبيه والمختلف القريب والبعيد الصديق والغريب.
 
 
 
 
widgeo.net
 
 
Aujourd'hui sont déjà 253689 visiteurs
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement